Sunday, December 31, 2006

حزب الله والدولة اللبنانية


حزب الله والدولة اللبنانية : الموائمة بين الاستراتيجيا الوطنية والدور الإقليمي


علي فياض
آب (أغسطس) 2006


بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان/ ابريل 2006، شعر حزب الله بأنه مضطر إلى المشاركة في الحكومة لتأمين توازن بين القوى اللبنانية المختلفة وحماية موقع لبنان الدقيق في المعادلة الإقليمية. تؤكد هذه الورقة، التي كتبها رئيس مركز البحث والتفكير الرئيسي لدى حزب الله، إن الحزب مصر على التمسك بالنظام السياسي اللبناني الذي تستند ديمقراطيته إلى قاعدة التوافق، وانه يؤيد دولة قوية ومركزية. ويشكل هذا الموقف تطورا في إدراك هذه الحركة لمتطلبات التوازن المحلي اللبناني، كما لتقديراتها حول أهمية الاستقرار الداخلي في خدمة مشروعها الوطني ومن اجل نجاحها في مهمتها العربية والإسلامية. ا

وبينما كان الحوار الوطني بين مختلف الفصائل اللبنانية، الذي انطلق في ربيع 2006، يحرز تقدما في مسائل تقاسم السلطة، برزت خلافات في وجهات النظر تتعلق بالسياسة الخارجية، وفي المقدمة منها ما يخص الاستراتيجية حيال إسرائيل والتحالفات الإقليمية التي شكلت خطوط انقسام. وعشية الحرب الإسرائيلية على لبنان، كان حزب الله يحاجج بأن نقاش مسألة سلاحه يجب أن يكون جزءا من نقاش أوسع حول الاستراتيجية الوطنية الدفاعية، التي توفر ضمانات متبادلة بين مختلف المجموعات اللبنانية وتصالح الوظيفة الدفاعية للمقاومة مع خطة الدولة لاستعادة السيادة، بعيدا عن التأثيرات الخارجية. ووفق نظرية "التوازنات المتصلة" التي يلتزم بها السيد حسن نصر الله، فإن مساهمة حزب الله في المعادلة الإقليمية هي محصلة آلية لإنجازاته في المجال الوطني المحلي. وهكذا تصبح المصالح الوطنية المعيار الرئيس الذي يحكم سلوك الحركة، ويصبح التناقض بين دوريها الوطني والإقليمي نافلا. بعد الحرب مع إسرائيل، اتسعت شعبية حزب الله الإقليمية كثيرا وبما يفوق كل التوقعات، ولكن الحزب يشدد مجددا على تمسكه ببرنامجه الوطني اللبناني
. ا


شكَّل دخول حزب الله إلى الحكومة اللبنانية، بعيد الانسحاب العسكري السوري من لبنان تطوراً نوعياً في مساره السياسي. فالحزب كان قد استنكف مراراً عن المشاركة في التشكيل الوزاري، رغم توفر الفرصة له، إذ كانت نظرته إلى الحكومة مشوبة بشيء من التحفظ رغم تأثيره الواضح بالسلطة وبالتوازنات السياسية اللبنانية. ا

فمنذ أيار/ مايو في العام 2000، تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني تحت ضغط أعمال المقاومة، ما كان ممكناً تشكيل أية حكومة لبنانية لا تأخذ في الاعتبار تأثير الحزب على تشكيلتها وتوجهاتها السياسية، سيما ما يتعلق بالسياسة الخارجية اللبنانية والخيارات الإستراتيجية التي تتصل بالصراع مع إسرائيل. ذلك أن المقاومة امتلكت ثقلاً معنوياً راح يعبر عن حضوره على صورة سلطة رديفة تؤدي وظيفة معيارية. على هذا الأساس، لا يمكن أن نعتبر مشاركة حزب الله في الحكومة تحولاً أو تغيراً، بقدر ما يمكن اعتبارها تطوراً، فالتأثير في تركيبة وتوجهات السلطة في لبنان لم يكن متلازماً في حالة حزب الله مع الدخول إلى الحكومة. وهذه حالة مفارقة، قد يجدر البحث عن خصائصها وعوامل تفسيرها. ا

على أية حال، تطرح علاقة حزب الله بالسلطة، رغم خصوصيتها، إشكالية العلاقة بين الحركات الإسلامية والسلطة غير الدينية، وتظهر إلى مدى بعيد، الشروط الضرورية لتطور الحركة الإسلامية في علاقتها بالبيئتين السياسية والاجتماعية. ا

إن حالة حزب الله قبل اشتراكه في الحكومة يمكن أن نعبر عنها بأنها سلطة من غير سلطة. وكانت هذه السلطة قادرة على أن تؤدي دوراً حاسماً في مجالها الذي يتصل بالصراع والخيارات الإستراتيجية. أما في المجالات الأخرى التي تتصل بالإدارة والمؤسسات والوظائف المدنية للسلطة، فقد كان حزب الله خارج أية فاعلية تذكر. ا

فعلى مدى عقدين من المقاومة، قارب حزب الله السلطة بطهرانية نضالية، لم تكن تحول فقط دون أن تكون السلطة هدفاً له، بل كان ينظر لها على أساس أن الدخول إلى رحابها يتناقض مع منطق المقاومة ومقتضياتها. إن ما فرض على حزب الله الإقدام على خطوة الدخول إلى السلطة، هي التحولات الدراماتيكية التي عصفت بالتوازنات السياسية اللبنانية من جراء الانسحاب العسكري السوري. لقد أدى ذلك إلى فراغ استراتيجي في إدارة الدولة والى تبدل في أحجام القوى وانكشاف في سياسات الدولة وخياراتها الكبرى وتهديد لموقعها في المعادلة الإقليمية. في مقابل الانحسار الإقليمي داخل التوازنات الداخلية اللبنانية، كان على القوى والاتجاهات المختلفة أن تمتد تلقائياً بناء على أحجامها الفعلية، وأن تعيد تموضعها في اصطفاف سياسي مستجد. ا

وفي ضوء ذلك، ومن وجهة نظر حزب الله، لم يعد ممكناً حماية مشروع المقاومة وتصويب بناء الدولة من خارج بنية السلطة. لقد شكَّل هذان الهدفان مسوِّغان قاهران لخطوة الدخول إلى الحكومة. كما لم يعد ممكناً كذلك لحكومة أن تمتلك مصداقية التمثيل الشعبي الواسع، مع بقاء حزب الله خارجها. إن ذلك سيفضي في حال حصوله، إلى توزيع تمثيل الثقل الشعبي خارج السلطة وداخلها، مع أرجحية للخارج، مما يعني اضطراباً وعدم استقرار في تركيبة السلطة وأدائها. * * * في اللحظة الراهنة تقبع البلاد في مأزق حاد، على خلفية انقسام سياسي عميق بين اللبنانيين. فعلى الرغم من أن الحكومة الراهنة تضم معظم الاتجاهات والقوى الأساسية في البلاد، يستثنى منها التيار الوطني الحرّ بزعامة الجنرال ميشال عون، وزعامات وأحزاب أخرى موالية أو حليفة لسوريا. إلا أنها خضعت بدورها لعواقب الانقسام المشار إليه، فتعطلت حيناً وقوطعت حيناً آخر، وعصفت بها المشادات الحادة، وجرى تشكيل إطار للحوار الوطني بمحاذاتها لمعالجة الملفات الكبرى التي ينقسم اللبنانيون حولها، على النحو الذي بدا وكأنه فعلياً أعلى سلطة في البلاد. ا


إن الانقسام السياسي الراهن بين اللبنانيين يتوزع وفق منطقين: ا

منطق تكتل 14 آذار/مارس الذي بات يعرف لاحقاً باسم تكتل 14 شباط /فبراير بعد خروج ميشال عون منه. ويرفع هذا التكتل شعارات تحميل سوريا مسؤولية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وينادي بالسيادة والحرية والاستقلال، ويستند في مواقفه إلى القرارات الدولية التي صدرت حول لبنان، وعلى رأسها القرار 1559 الذي يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. كما ينادي هذا التكتل بإقالة أو تغيير رئيس الجمهورية اللبنانية العماد أميل لحود وترسيم الحدود مع سوريا، بما فيها مزارع شبعا المحتلة، ويدعو إلى نزع سلاح المقاومة (حزب الله) ونزع سلاح المنظمات الفلسطينية. ا

في المقابل، يطرح تكتل 8 آذار/مارس شعارات مختلفة، ويصيغ موقعه السياسي وفقاً لحسابات أكثر انجذاباً للدمج بين البعدين الوطني والقومي. فبالإضافة إلى مطالبته بضرورة بناء دولة مؤسسات تقوم على التوازن والمشاركة، فإنه يعطي أولوية للحفاظ على موقع لبنان في معادلة الصراع مع إسرائيل، ويترجم ذلك بالتمسك بسلاح المقاومة في سبيل تحرير ما تبقى من ارض لبنانية محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، ومواجهة الأطماع والتهديدات الإسرائيلية. ويرى أن البت بمصير سلاح المقاومة يتقرر على ضوء اتفاق اللبنانيين على إستراتيجية دفاع وطني توفر الحماية للبنان. كما لا يرى ما يستوجب تغيير رئيس الجمهورية ما لم يتم التوافق على المشروع السياسي للبلاد وعلى اسم الرئيس البديل القادر على تنفيذ هذا المشروع. أما بشأن السلاح الفلسطيني، فيرى ضرورة معالجته في إطار المصالح الوطنية اللبنانية ومقتضيات الصراع مع إسرائيل، مما يستوجب الحوار الهادئ مع الفلسطينيين ومنحهم كامل حقوقهم المدنية التي تسمح لهم بالعيش الكريم. ا

ويشدد هذا التكتل على العلاقات المميزة مع سوريا، ولا يمانع من ترسيم الحدود معها، باستثناء مزارع شبعا بسبب خضوعها للاحتلال الإسرائيلي، كما لا يمانع بتبادل السفارات بعد بناء إجراءات الثقة المتبادلة التي تعيد العلاقات بين البلدين إلى مجاريها الطبيعية. ا

إن الانقسام في الرؤى والمواقف بين التكتلين يمتد كذلك ليشمل التحالفات الإقليمية والدولية، ففي حين يمتاز تكتل 14 شباط / فبراير بعلاقات طيبة مع المحور الأميركي- الغربي، يذهب تكتل 8 آذار/مارس في اتجاه مناقض، إذ يركز على أولوية العلاقات مع المحور السوري- الإيراني، ويتمسك بضرورة أن يؤدي العرب دوراً أساسياًً في معالجة الأزمة القائمة. ا

يظهر جلياً، بالنظر إلى طبيعة القضايا المختلف عليها، أن الانقسام الأساسي بين اللبنانيين الذي يشكل جوهر الأزمة السياسية الراهنة، يتركز على سياسة لبنان الخارجية وخياراته الكبرى تجاه الصراع مع إسرائيل وموقعه وتحالفاته داخل البيئة الإقليمية. ومن الطبيعي أن يمتد هذا الانقسام باتجاه التوازنات الداخلية وموقع كل طرف فيها، لينتج كذلك تفاوتاً في الخطاب السياسي تجاه القضايا الداخلية، وإن تكن أقل حدة مما هي عليه فيما يتعلق بالقضايا الخارجية. ا

في صلب تناقضات خريطة المواقف والتحالفات هذه، يشكـل حزب الله محـور "تكتـل 8 آذار"، ويتم التعاطي معه من قبل القوى المحلية والدولية بوصفه مركز الثقل في إدارة هذا التكتل. ا

إن تحليل سلوك حزب الله السياسي ومواقفه وإطروحاته في التعاطي مع أزمة الانقسام اللبناني الراهنة، وتحليل علاقاته ونظرته إلى السلطة ودوره فيها تمتلك أهمية منهجية خاصة، نظراً لما يعكسه من تجربة لحركة إسلامية تمارس العمل السياسي في بيئة تعددية والنضال المسلح ضد الاحتلال. ا

علينا في سبيل هذا التحليل أن نلتقط عدة محطات رئيسية برزت في مواقف وسلوك الحزب إبان الأزمة الراهنة الممتدة منذ أكثر من عام. ولنبدأ من السياسة الانتخابية التي اعتمدها حزب الله في الانتخابات النيابية التي جرت بعد الانسحاب السوري مباشرة، حينما اخترق بتفاهماته الانتخابية الاصطفاف السياسي الذي كان قائما" وفقا" لمجموعة متداخلة ومعقدة من القضايا يأتي في طليعتها الموقف من سوريا واتهامها بمقتل الرئيس الحريري والمحكمة الدولية والموقف من القرار الدولي 1559. ا

لقد سمي التفاهم الانتخابي وقتذاك بالتفاهم الرباعي، وقد ضم حزب الله وحركة أمل من ناحية وتيار المستقبل بزعامة سعد الدين الحريري والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط. لقد كانت تلك الخطوة خارجة عن المألوف، وتبدو محطة مفارقة في سياق الاصطفافات الجديدة التي أنتجها الانسحاب السوري، وقد مهّد هذا التفاهم لتشكيل الحكومة الحالية بتوازناتها الراهنة. إن التسوية التي مثلت أرضية التفاهم الانتخابي وتشكيل الحكومة قامت على صون الوحدة الوطنية وإعادة بناء الدولة وحماية المقاومة واحتواء مفاعيل القرارات الدولية من خلال تحويل موضوعاتها الإشكالية إلى قضايا يختص الحوار الوطني الداخلي بالنظر بشأنها ومعالجتها. ا

لقد تمكنت هذه التسوية من الصمود وتغطية تعقيدات العلاقات السياسية الداخلية وتناقضاتها العميقة لفترة قاربت الأشهر السبعة قبل أن تتعرض لإهتزازات حادة عبرت عن نفسها على صورة تراشق إعلامي عنيف وتظهير للخلافات في المواقف السياسية تجاه القضايا المطروحة، وعلى رأسها موضوعات سلاح المقاومة والعلاقات اللبنانية- السورية ومصير رئاسة الجمهورية. إن ذلك أدى إلى اضطراب في أداء الحكومة واستقرارها لكنه لم يفضِ إلى انهيارها، كما أثمر ولادة إطار الحوار الوطني الذي اشرنا إليه سابقاً. ا

إن السلوك المتميز لحزب الله تجاه أخصامه السياسيين على خلفية التمسك بالحوار وبناء التفاهمات السياسية وفق تسويات واقعية تلحظ التوازنات السياسية وحاجة البلاد إلى الاستقرار، تكررت في محطة لاحقة مع خصم سابق، وفي تجربة لا تقل دلالة وأهمية عن تجربة التفاهم الرباعي بل قد تفوقها أهمية. وهي تجربة إنجاز ورقة التفاهم السياسي بين حزب الله والتيار الوطني الحر الذي يتزعمه الجنرال عون. لقد شكلت وثيقة التفاهم تطوراً نوعياً في طبيعة التحالفات السياسية القائمة، ذلك أن الطرفين ربما يمثلان الاتجاهين الأوسع شعبية، وينتمي إحداهما إلى الطائفة الإسلامية والآخر إلى الطائفة المسيحية، كما أنهما يرتكزان على خلفيات سياسية مختلفة، وتاريخ سياسي أكثر اختلافاً، ومع ذلك تمكنا من صياغة تفاهم سياسي مشترك تأسس على تنازلات متبادلة، وبناء مقاربات سياسية توفيقية لقضايا سياسية شائكة. وعلى الرغم من تضمن الوثيقة لمواقف شاملة تجاه كل القضايا المطروحة، إلا أن ابرز مرتكزاتها يتصل بتحول في موقف التيار الوطني تجاه المقاومة على قاعدة الموافقة على حفظ سلاحها لاستكمال التحرير وإطلاق الأسرى اللبنانيين والبحث مستقبلاً في إستراتيجية دفاعية وطنية. وفي المقابل وافق حزب الله على تبادل السفارات مع سوريا وترسيم الحدود، بعد بناء إجراءات الثقة معها. ا

لقد أوجدت وثيقة التفاهم مناخاً سياسياً واجتماعياً أعاد خلط الأوراق الداخلية ودفع الانقسام السياسي إلى وجهة أفقية تتجاوز الانقسامات التقليدية اللبنانية. فعلى الرغم من وحدة الموقف السياسي الشيعي، إلا أنه في المقابل جرى تظهير انقسام حاد داخل الطائفة المارونية، كما اظهر تعذراً شديداً في العودة إلى تمفصل الانقسام السياسي اللبناني على قاعدة الانقسام الإسلامي- المسيحي، وهو اخطر الانقسامات وأكثرها تهديداً للاستقرار وللسلم الأهلي. ا

بالإضافة إلى ما سبق، فإن وثيقة التفاهم التي قاربناها بوصفها محطة ثانية في فهم سلوك حزب الله السياسي في المرحلة الراهنة، انطوت على ما يمكن أن نعتبره بعدا جوهريا بدوره، في فهم الفكر السياسي اللبناني لحزب الله، إن صح التعبير، ونقصد بذلك، التأكيد على الطبيعة التوافقية للنظام السياسي اللبناني. ا

وفي واقع الحال، شكَّل هذا الموقف إحدى المقولات الأساسية التي راح حزب الله يكررها دون ملل في مواجهة ما اعتبره استئثاراً من قبل فريق الأكثرية في إبان الأزمة التي عصفت بالحكومة، بعد لجوئها لاتخاذ قرارات أساسية وفقاً لقاعدة الأكثرية والأقلية. ا

إن الإلحاح والتكرار اللذين وسما خطاب حزب الله في التأكيد على كون النظام السياسي اللبناني هو نظام ديمقراطي توافقي بالاستناد إلى قاعدة العيش المشترك التي نصَّت عليها مقدمة الدستور اللبناني، لا يمكن فهمه فقط على ضوء ضرورات السجال السياسي الداخلي في لحظة انقسام سياسي عاصف، كما لا يصح إدراج هذا الخطاب في سياق لحظوي قابل للتجاوز بسهولة في مرحلة لاحقة. لقد كان ذلك التأكيد على التوافقية تعبيراً عن تحول عميق، أخذ في التراكم منذ زمن ليس قريب، في إدراك حزب الله لمقتضيات الاجتماع السياسي الوطني ولكيفية التعاطي معه، وفهمه للأهمية القصوى التي يمثلها الاستقرار الداخلي كقاعدة لكل مشروع وطني بأبعاده الإسلامية والقومية. ا

في مقاربة حزب الله للتوافقية في النظام السياسي، ما يتجاوز المنطق الثوري التقليدي في العمل السياسي الذي يرى في الصراع طريقاً إلى التقدم، لصالح فكرة التكامل طريقاً للتطور، علماً أن الواقعية تقتضي النظر إلى السياسة بوصفها عملية صراع وتكامل في آن. إلا أن الفارق هنا يكمن في أن الغلبة في موازين قوى غير مستقرة، ستكون عاجزة على المدى البعيد عن حماية المصالح. من هنا يميل حزب الله إلى توظيف قوته وقدراته بوصفه عنصر توازن في التركيبة اللبنانية وليس عنصر غلبة. ا

إن ما سبق يظهر إلى مدى بعيد، تلك الأهمية المنهجية الخاصة الكامنة وراء تحليل سلوك حزب الله السياسي ومواقفه واطروحاته في التعاطي مع أزمة الانقسام اللبناني الراهنة. وكذلك تحليل علاقاته ونظرته إلى السلطة ودوره فيها، لما يمثِّل من تجربة لحركة إسلامية تمارس في الآن نفسه العمل السياسي في بيئة تعددية من جهة، والنضال المسلح ضد الاحتلال من جهة أخرى، وتؤدي كلا الدورين من موقع محوري وفاعل في الواقعين المحلي والإقليمي. ا


ما وراء المواقف: الرؤى والأفكار


في الواقع، يستند تعاطي حزب الله مع الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان، وإقدامه على الاشتراك بالحكومة، لأول مرة في تاريخه السياسي، إلى بنية فكرية سياسية، أخذت في التشكل منذ أمد بعيد، وتطورت على صورة نسق متراكم ولد تباعاً ووفقاً لتفاعلية معقدة بين البنية الفكرية الأصلية وتحولات الواقع بتعقيداته وتحدياته المتتالية. ا

أن حزب الله يواجه راهناً مجموعة من الإشكاليات أو التحديات وكذلك الاختلافات العميقة التي راحت في اتجاه المزيد من التمظهر مع تنامي الانقسام اللبناني. ورغم أن حزب الله يرى إلى تجربته بانها تتجاوز تلك الإشكاليات وتقدم حلولاً لها، فإن المبالغة في الطابع الإشكالي للتحديات المطروحة إنما تغذيه الحساسيات السياسية والخلفيات التحالفية القائمة، وأن الاحتدام اللبناني يقدم تلك الإشكاليات بوصفها إشكاليات جوهرية بعضها حاضر في صميم السجال السياسي، وبعضها الآخر كامن في المشهد الخلفي الذي يتصل بالقضايا النظرية والفكرية والسياسية، مثل إشكالية الدولة- المقاومة لناحية العلاقة بينهما والمواءمة بين وجوديهما، ومعالجة ما تواجه به المقاومة من تناقض مفترض مع طبيعة الدولة ووظائفها ومنطقها. ا

والإشكالية الأخرى تختص على نحو أساس بالأحزاب الدينية لناحية التوفيق بين الهوية الموضعية (الوطنية ) وهي هنا تتمثل بالهوية اللبنانية من ناحية، والانتماء الكلي المتمثل بالانتماء الإسلامي- القومي، وما يفرضه من التزامات تجاه الأمة والقضايا ذات الفضاء الأوسع والتي تأتي في طليعتها القضية الفلسطينية وكل القضايا الأخرى التي تتصل بالصراع مع إسرائيل ومواجهة التحديات الأميركية في العالم العربي والإسلامي. ا

ولا يخفى أن ثمة سيولة في ترابط العديد من الإشكاليات ببعضها البعض، بحيث لا تنحصر فقط بالإشكاليتين السالفتين، إنما تتعداهما إلى إشكاليات أخرى، من قبيل الحاجة إلى إجابات نظرية وافية تفسر العلاقة القائمة بين حزب ذي إيديولوجية دينية، وبيئة سياسية واجتماعية ذات طابع تعددي. وإذا كان حزب الله قد تجاوز هذه الإشكالية عملياً من خلا ل إدراجها في سياق ايجابي، فإن ذلك لا يلغي الحاجة إلى تفسيرها نظرياً في المستوى الذي يتصل بالفكر السياسي. ا

إن التقاط المفاهيم والمواقف التي يُقارب بها حزب الله الواقع اللبناني بتعقيداته المختلفة بما فيها الأزمة الراهنة، وإعادة تقعيدها في بناء نظري منسجم ومتماسك، سيفضي بنا إلى ادارك السمة التأسيسية لمنظومة من مرتكزات التفكير السياسي إذا ما جرى مقارنتها بما هو سائد لدى الحركات الإسلامية المعاصرة في علاقتها مع التحديات الداخلية والخارجية. وقد يصح لنا أن نسمي هذه المنظومة بأنها إنتاج لعقلانية سياسية عربية جديدة. ونقصد بهذه العقلانية السياسية نسقاً من قواعد التفكير ومزيجاً من منهجية وأهداف في آن، تشكل جميعها إطاراًَ ومنطلقات لإنتاج الأفكار والبرامج، وتشغل هذه العقلانية السياسية موقعاً وسطاً بين "البرامج السياسية" و"العقل السياسي". إذ أن سمة البرامج السيولة والتحول والراهنية، فيما أن العقل السياسي هو أكثر ثباتاً وديمومة، فهو يمتد على مدى تاريخي ابعد، وغالباً ما يتشكل وفق عمليات معقدة تغطي أحقاباً عديدة تضرب جذورها في التاريخ وتواصل نموها في الحاضر، وتتغذى على نحو أساس بمرتكزات التراث الأساسية. ولهذا فإن القطيعة أو التحول في "العقل السياسي"، كما دعا عدد من المفكرين العرب، هي مسألة لا شك شائكة ومعقدة وتستلزم شروطاً قد لا تتوفر بالسهولة التي يفترضها هؤلاء. في حين أن "العقلانية السياسية" هي إطار مرجعي للتفكير يمكن أن يكون بالمتناول وفقاً لخيارات إستراتيجية صرف ويترجم على صورة أفكار وقناعات ومواقف. ا


أية عقلانية سياسية جديدة؟


يقوم ذلك على ركيزتين أساسيتين وهما العمل على توفير الاستقرار الداخلي وتأمين الفاعلية المجتمعية. ا

الاستقرار هو شرط أساسي لمجتمع سليم وقادر. فالصراعات الداخلية غالباً ما تعيق إمكانات النمو والتطور، عندما تتجاوز فضاء السلم الأهلي والضوابط والقيود التي تعبر عن نفسها بمؤسسات وقوانين. الاستقرار، أيضاً، شرط ضروري في قدرة المجتمع على مواجهة تحدياته الخارجية. ولهذا فالاستقرار ضروري في التطور الداخلي وضروري في مجابهة التحديات الخارجية. ا

إن النضال السلمي الديمقراطي هو الإطار الطبيعي لتنظيم الخلافات والانقسامات بين السلطة والمعارضة وبين المجموعات السياسية أو الطائفية المختلفة. ا

أما الفعالية المجتمعية فتقوم على ضرورة توفير الشروط التي تجعل من المجتمع فاعلاً في البناءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويستلزم ذلك من جملة ما يستلزم توافقاً بين السلطة والمجتمع، لأن المجتمع في الأحوال كافة، يجب أن لا يكون مقهوراً، بل قادراً على ممارسة فاعليته. فالمجتمع المقهور إما أن ينسحب من الشأن العام ليخلي الأمر للسلطة في حالة عدم اكتراث وإما أن يندفع باتجاه الانفجار.. ا

تطرح هذه المسألة ضرورة التمييز بين الإشكاليات التي يثيرها تطبيق الفاعلية الاجتماعية في لبنان وهو يتمتع بديمقراطيته الخاصة، وبين الإشكاليات التي تطرح في الساحات العربية والأخرى وهي بصورة عامة ساحات غير ديمقراطية. ا

في الساحة اللبنانية تذوي إشكالية الديمقراطية إلى حدودها الدنيا، على نحو مغاير لما يطرح في الساحات العربية الأخرى. ففي لبنان تلتهم الطائفية فوائد الديمقراطية. هذه إشكالية شديدة الأهمية، لكنها تخرج بدورها عن سياق معالجتنا. فالبحث في الفاعلية المجتمعية في لبنان راهناً يثير إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها كذلك قاعدة البحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمقاومة. ا

ولا شك أن دخول حزب الله في السلطة واشتراكه في إدارة الدولة ينطوي على إعادة اعتبار لموقع الدولة في فكره السياسي، إذ لم يعد ممكناً في تصوره توفير الاستقرار وحماية المجتمع في ظل دولة رخوة ومؤسسات منهكة وخيارات سياسية مضطربة. ا

إن دخول حزب الله إلى السلطة هو في جوهره تكريس للتصالح مع الدولة، لكنه لا يستلزم بالضرورة تصالحاً مع السلطة. الخطوة تنطوي على دلالات تتصل بصون الدولة وإعادة بنائها بوصفها دولة جميع اللبنانيين، وبهذا المعنى فهي يجب أن تكون إنعكاساً مطابقاً لقناعات اللبنانيين ومجالاً مفتوحاً على التطور تبعاً لقناعاتهم ومطامحهم. ا

إن حزب الله في مقاربته لفكرة الدولة يبدو أكثر ميلاً إلى تعريفها بوصفها تجسيداً لإرادة عامة، وهذا التعريف يتجاوز المظاهر الهيكلية للدولة، على أهميتها الطبيعية، لناحية الالتفات إلى أهمية المجتمع نفسه في بناء الدولة. فالدولة أكثر من جهاز بيروقراطي، إنها وظائف. وعلى المجتمع مساعدة الدولة في القيام بوظائفها... والدولة في الآن نفسه هي ارض وشعب ومؤسسات. فالمجتمع جزء من الدولة وعليه مؤازرتها إلى حين قدرتها على الاستقلال بوظائفها. ليس خافياً أن هذه المقاربة اجتماعية الطابع، وهي تختلف عن نزعة التعالي بالدولة وتجريدها وعزلها. فهي في صورتها الصحيحة ليست إلا تتويجاً لتطور المجتمع نفسه، لذا لا يصح التركيز على حماية الدولة في مقابل إنكشاف المجتمع، بل ينبغي إدراجهما في معادلة واحدة ومتصلة. ا

من شأن هذه المعالجة أن تساعد على نقل السجال العائد الى الانقسام اللبناني حول إشكالية الدولة- المقاومة، إلى حيث يجب أن يكون أصلاً، وهو المكان الذي يتصل فيه النقاش النظري بالنقاش السياسي. ا

لقد فعل حسناً اللبنانيون عندما تنادوا للحوار إطاراً لمعالجة انقساماتهم. هذا ما تمليه التوافقية بوصفها جوهر النظام السياسي اللبناني. وهذا ما ينبغي أن يدفع وهم إمكانية بناء استقرار أو فاعلية مجتمعية على قاعدة التغالب. فإذا كان بعض اللبنانيين يتمسك بسلاح المقاومة وبعضهم الآخر يتحفظ على هذا السلاح وفق دوافع وصيغ واطر زمنية متفاوتة، فإن المراوحة هنا تماثل رفع مستوى مخاطر الانقسام، بينما التوافقية تعني البحث عن تسويات تنقل النقاش من البحث في مصير السلاح إلى البحث في الهواجس والضمانات المتبادلة: أي كيف يصيغ اللبنانيون ضماناتهم المشتركة كي لا تكون إستراتيجية المقاومة نقيضاً لإستراتيجية الدولة؟ وكيف يعالجون هواجسهم لكي تبقى وظائف هذا السلاح لبنانية ودفاعية بحيث لا تهدد التوازنات الداخلية، ولا ترتهن لأية أولويات على حساب الأولويات اللبنانية؟.وكيف يصان فعلياً الأمن القومي اللبناني فلا يعود اللبنانيون للانكشاف الذي ساد لعقود أمام الاستباحة الإسرائيلية؟ وكيف نتوسع في معنى السيادة بحيث يشمل في الآن نفسه التحرير من الاحتلال وعدم الارتهان لمعادلات خارجية أو هيمنة دولية؟. ا

في الواقع، وعلى الرغم من أن الحوار الوطني أو الحوارات الثنائية لم تتطور بعد إلى التركيز على هذه الأسئلة حصراً، إلا أن تداولها قائم بصورة أو أخرى. ا

لقد أشار الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة، ومنها جلسات الحوار الوطني، إلى أنه لن تكون لسلاح المقاومة وظائف خارج تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة والدفاع عن لبنان في وجه التهديدات والاعتداءات الإسرائيلية. ا

إن حزب الله لا يخفي هواه تجاه القضايا الإسلامية والعربية، كما لا يخفي تحالفاته الإقليمية، وتتضمن أدبياته موقعاً مركزياً للصراع مع إسرائيل التي تشكل القضية الفلسطينية محوره الأساس، ولهذا فإن خطابه السياسي على مدى يزيد عن قرنين من الزمن لم يخلُ من المواقف التي تتصل بالقضية الفلسطينية. لكن ثمة ما تجدر ملاحظته في خطاب حزب الله ومواقفه وسلوكه، في مقاربته للتوفيق بين إيديولوجيته السياسية التي تقوم أساساً على مفهوم الأمة الواحدة الذي يفرض فضاءً مشتركاً من القضايا والمصالح والمصير من ناحية، وبين أجندته اللبنانية بوصفه حركة تحرير وطني لبناني ومكوناً أساسياً من مكونات السلطة السياسية في لبنان من ناحية ثانية، آخذاً في الاعتبار كل ما يحيط بهذا الدور من تعقيدات وخصوصيات لبنانية. ا

وهنا، يمكننا بناء نظريتين في تفسير العلاقة العملية بين الدورين المحلي والإقليمي، أو بالأحرى وعلى نحوٍ أكثر تحديداً، بين الوظيفة اللبنانية للمقاومة ووظائفها الإقليمية. ا
1
نظرية الأدوار المتصلة، وهي التي تنادي بوظيفة إقليمية للمقاومة تستند إلى دور مباشر مؤازر، في أي تطور دراماتيكي يتسبب به عدوان ما تجاه أحد أطراف معادلة الممانعة والمقاومة (حماس مثلاً) ا
2
ينطبق على أي قوة إقليمية أخرى في حال نجاحها في إطارها الوطني)، فإن ذلك يشكل بحد ذاته، ودون الحاجة إلى ادوار مباشرة تتجاوز ما يفترض أنه الدائرة الوطنية، مؤازرة لمعادلة الممانعة والمقاومة برمتها ولأطرافها كافة، نظراً لاتصال التوازنات الإقليمية ببعضها البعض. ا

وبهذا المعنى يزول التضارب المفترض، الذي تحيط به الكثير من الحساسيات والتعقيدات، بين الدورين المحلي والإقليمي للمقاومة. فالإسهام في تعزيز المعادلة الإقليمية من هذه الزاوية ليس إلا نتيجة مترتبة تلقائياً على نجاح المقاومة في دورها الوطني المحلي. أي أن المصالح الوطنية اللبنانية هي المعيار الجوهري لسلوك المقاومة، والإسهام الإقليمي يندرج في إطار النتائج التلقائية وليس الدوافع المسبقة أو المبيَّتة. ا

إن موقف الأمين العام لحزب الله الذي أشرنا إليه، يتضمن بوضوح كامل إلتزاماً بالنظرية الثانية وليست الأولى، أي أن السلوك العملي للمقاومة يندرج في إطار نظرية التوازنات المتصلة وليس في إطار نظرية الأدوار المتصلة. ا


أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية


أما وقد وقعت الحرب الإسرائيلية على لبنان في 12 تموز 2006، فمن السذاجة الافتراض ان الدافع الإسرائيلي للقيام بهذا العدوان هو أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين. ولنقل باختصار ان الهدف الاستراتيجي الذي حدده الأميركيون هو العمل على إقامة شرق أوسط جديد، ويعني ذلك الشروع في تغيير المعادلة السياسية اللبنانية جذريا، ولعله تمهيد لسلسلة خطوات تنتهي باستهداف إيران عسكرياً فيما مسعى تفكيك حزب الله وضربه يتم وفق منهجية الهدم والترويع الأميركية التي اعتمدت في العراق، التي تشبه لعبة الدومينو وتفترض تدحرجاً في التداعيات والنتائج. ومن المعروف ان تلك المنهجية فشلت في العراق فشلاً ذريعاً ، ثم أعيد تكرار ذلك الفشل في لبنان. ا

أما من ناحية حزب الله، فقد كانت المسألة على درجة أعلى من البساطة، إذا أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين، هدفت على نحو محدد إلى العمل على مبادلة هذين الجنديين بالأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، دون أي ميل إلى التصعيد أو التوسع في دائرة الاشتباك. في نتائج هذه الجولة من مجابهة تبدو تماما أوسع من اللحظة الراهنة، فإن حزب الله ازداد قوة مع تحوله إلى رمز للنهضة والمقاومة والصمود في العالمين العربي والإسلامي. وفي حين ازداد الموقف العربي الرسمي انكشافا وتعمقت بيئة الانقسام بينه وبين الشارع العربي، اخذ مجدداً خيار المقاومة، كبديل عن خيار التسوية أو خيار المراوحة، في امتلاك مصداقية اكبر مستنداً إلى تجربة جلية. ا

يبدو صحيحاً أن ما بعد 12 تموز يختلف جذرياً عما قبله، ويبدو صحيحاً أيضا أن حزب الله على عتبة تحديات جديدة
يفرضها انتصاره على إسرائيل، وهي تبدأ من تعقيدات الساحة اللبنانية التي باتت محكومة بقرار دولي هو القرار 1701 وصولاً إلى الساحة العربية حيث وجد الحزب نفسه في موقع القيادة للشارع العربي على مختلف تنويعاته الفكرية والسياسية. ويحدث ذلك في الوقت الذي لا يزال حزب الله يحرص على أن تبقى حدود دوره هي الساحة اللبنانية في مستوييها التحريري والإصلاحي. ا


علي فياض
مدير مركز الدراسات والتوثيق – لبنان

0 Comments:

Post a Comment

<< Home